روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | بقايا رجل عظيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > بقايا رجل عظيم


  بقايا رجل عظيم
     عدد مرات المشاهدة: 2500        عدد مرات الإرسال: 0

أمام البناء...

لم يتغيّر شيء في السور الحديديّ.. لا يزال على سوقه شامخا في وجه الريح عدا رؤوس مواسيره صارت بيضاء كأنّ الشيب يعلوها، والأسلاك الشائكة الممتدّة بينها تقوّست قليلا، لكنّها متماسكة على إخائها لم يفرّط واحد منها بأخيه..

إستشعرت في تأمّلي العابر أنّ الهرم يصيب كلّ شيء، حتّّى الجمادات لها في الحياة نصيب، ثمّ إلى الفناء من دون مقاومة..

الباب كان مفتوحاً كما عهدت، لكن لا أثر للضيوف، والمسافرون يدخلون ويشربون ويستريحون ثم يكملون المسير..

الصخور المتناثرة في مقدّمة السور تشهد على آثار مسجد.. المحراب قائم في مكانه، لكنّ هيئة النمل على جنبيه وهشيم الأوراق النازحة التي وجدت في زواياه ملاذا آمنا أسمعتني شكواه من هجر طويل..

صوت ذاك الرجل لا يبرحني.. ينادي أولاده: الصلاة الصلاة.. فيتزاحم الأولاد من خلفه.. العنفوان يجعلهم يتزاحمون في المسجد الفسيح وهم ثلاثة فقط.. كأنّهم يتدافعون لإحتلال أفضل مكان، وجميعهم في الصفّ الأوّل..

في الجهة المقابلة على مسافة أربعين مترا تقريباً آثار موقد النار.. غرفة الضيوف زالت بالكامل..لم أستطع إكمال خطواتي بين الحطام.. لم أكن مراعية إلى درجة كبيرة قدر حزني على ماخلا من أيّام.. حنيني الذي دفعني إلى المجيء هنا لم يغيّر صورة منزلي وموطن طفولتي وذكرياتي..ذاك الحنين يستحضر الصورتين أمامي.. صورة الهمّة وصورة الدمار بعد زوال صاحب الهمة .. عدت أدراجي..

إلى الوراء..

إلى الوراء..

تعثّرت..

غصن شوك من شجرة النبق -السدر-، كأنّها هي الأخرى تذكرني بنفسها وما آلت إليه..

لطالما أسرع الرجل وأبعد الأشواك عن طريقي..

إنتبهي يا ابنتي..

ثم أضحك وأمضي..

اليوم أنا أبعد الأشواك بنفسي وآلامها في أعماقي..

شجرة النبق كما عهدتها تباهي السماء بطولها، تقف اليوم كعجوز مسنّة لم تثنها تجاعيد وجهها عن مقاومة السنين وأخذ كامل مستحقاتها من الحياة..

خرجت بأسف من بين الأسوار..

أين الجيران..

لم أصدق رؤية خيمة الجار أبو جابر.. سرت نحوها..ناديت بجانب الباب فخرج لي رجل كبير أخذني شوقي القديم لسؤاله عن أحواله مع أني لا أعرف ملامح وجهه..

أتعرف أبو جابر...

نعم يا بني، من أنت؟..

أنا من سكان الحي سابقا..

هل تعرف أحدا منهم..

من أين أتيت- بني-،أنا رفيق أبو جابر -عافاه الله- وهذا الحي لم يبق من سكانه أحد كما ترى..رحلوا إلى المدنية..

صمت الشيخ لحظة..

أذكر نظرته التي تفحّص بها وجهي.. عيناه اللتان أغارهما الكبر كانتا تنبئان بخبرة عميقة..

أنت تشبه فهداً..

نعم يا عم، أنا ابنه..

أهلا بفهد وأولاده، ما الذي حلّ به؟ عسى أن يكون بخير..

رحمه الله يا عم، توفيّ منذ سنة تقريباً..

ثقلت عينا الرجل وكأنّه يقاوم ألما دفينا أقفلها عليه في النهاية..الحمد لله يا ولدي، لم يبق من رجال الخيمة سابقاً إلا أنا وأبو جابر المريض.. كلهم رحلوا إلى آخرتهم ونحن ننتظر رحيلنا علّنا نجتمع من جديد في جنّات النعيم..

دعوت له ولأبي جابر وللميتين من أهلنا..

وعدت أدراجي أسفل التلّ أتأمّل الربا من حولي، وأتذكر أيامي..تلك الأعمدة النحيلة التي حدّدت لي مكان أبا سيف صاحب الجمال في السفح المقابل، لا أستغرب نحالتها مؤكداً أنّ دودة الأرض أكلت جبروتها..

سبحان الله، حتى دود الأرض يغنّي معزوفة البقاء للأقوى..

لم تنته الحياة بعد..

* البقاء للأقوى لله وحده..

الحزن مسح كلّ شيء في الوجود من حولي..

حتى إبتسامتي المائلة على طرف شفتيّ حكت الحزن هي الأخرى..

تلك المساحات التي سعى بأرجائها والأهزوجة التي كان يردّدها: أربعة شالو جمل والجمل ما شالهم، تذكّرني بهمّة رجل، وتثقل الذكرى على نفسي.

ركبت سيارتي وإستدرت بها ..

خلفي البناء..

وفي روحي الحطام..

نظرت في المرآة، ودّعت بقايا رجل عظيم ثم سرت.

الكاتب: قويت الشلهوب.

المصدر: موقع رسالة المرأة.